أحنّ إلى التدوين، هكذا ببساطة. لكنني أتساءل مجدّدا : عمّ أكتب؟ ولمن؟ فكرة أن يدوّن أحدهم من " غزّة " هي فكرة ساذجة إلى حد بعيد، لأن كتابة من هنا لا يمكن أن تتحرّر من عقدة التنميط المعجون بالمأساة والتكرار، ولأن رَهَطا من الصحفيين والسياسيين والمتضامنين الأجانب والمشايخ والمفكرين ومعهم قناة الجزيرة استكملوا عملية احتلال المساحات الخاصّة والعامّة ببراعة منقطعة النظير، حتى بتنا نحن، المعنيون الأساسيون، على الهامش. قبل أيّام قليلة رأيت رجلا يفرش " بسطة " في السوق ليبيع أجهزة كمبيوتر محمولة، وإلى جانبه تماما رجل آخر يبيع بوابير الكاز! هل يمكن لكتابة عن مشهد كهذا أن تكون مثيرة لدهشة ... عميقة؟!
أُكتب كتابة شخصية بحتة. حاولتُ يا عزيزي. ما إن تكتب عن ذاتك حتى تجد نفسك متماهيا مع الجماعة لأنّك لا تمتلك ما يميّزك عنها فالكل هنا متشابه. تحتاج لفترة طويلة لتسمع نكتة تُضحكك من قلبك، وتحتاج لفترة أطول بكثير لتُفاجأ بشتيمة خارجة عن سياق تراث البذاءة الشعبيّ الممل تستخدمها في أوقات الشدّة، وحن يتعلّق الأمر بالصبايا فإنك قد تنتظر عمرا كاملا قبل أن تصدمك تلك المجنونة التي يمكن أن تأخذك لعوالم سحريّة لم تك تعرفها من قبل.
لكل ما تقدّم، فإن مراهقا لم يبلغ العشرين من عمره بعد، يعيش على مقربة من " وسط البلد " في القاهرة يمكن له أن يجمع هذا المجد كله من أطرافه، وأن يقدّم لي دروسا في المتعة واللعب تفوق يفارق نوعي ما أعرفه وما تعلّمته، لأنّه باختصار، يستطيع أن يعيش هذه اللحظات - التي ستستهلك من عمري سنينا- في ساعة واحدة. ولأجل ذلك كلّه، يستحق الصديق بيسو لقب " خيال " الظل، لأن أشخاصا مثله لا يمكن أن يكفّوا عن التخيّل، لأن حياتهم، وإن وجدوها تافهة وسطحية أحيانا، تبقى ولا شك أعمق بكثير من هذا الابتذال الرخيص الذي نمارسه يوميا لنكمل عمرنا هنا.
على هذا، أتقدّم بطلب لحركة التضامن الدولي مع غزّة، التي يملأ ناشطوها أزقّة وأحياء ومخيّمات القطاع، بأن تبدأ التفكير جديا بإحداث تغيير طفيف على اتجاهات عملها " الإنساني " بحيث تنقسم إلى فريقين .. فريق يكتب عن المأساة السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما هو حال كل من يريد أن يتضامن، وفريق آخر يبدأ الآن، وقبل فوات الأوان، بمهمّة تاريخية جديدة، وذلك عبر الكتابة عن مدى سطحية وتفاهة الحياة في هذه البقعة وعن توقف الزمن وحركة التخييل والإبداع الفطري وعن الملل والرتابة والاستلاب، وأن تُجمع حصيلة ما كُتب لتقدّم كأول مرافعة أخلاقيّة أمام العالم الحر لا تتطرّق لجوانب المأساة التي أُشبعت كلاما ومؤتمرات دوليّة .. لعلنا نستطيع فتح كوّة جديدة في هذا الجدار تُدغدغ عمق الضمير الإنساني الحسّاس وتدفعه بطاقته الكبيرة لمساعدتنا في إنجاز مشروعنا في حياة أكثر عمقا للجيل القادم من بعدنا.